الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب} قوله تعالى{ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه} بين في مواضع أن اقتراح الآيات على الرسل جهل، بعد أن رأوا آية واحدة تدل على الصدق، والقائل، عبدالله بن أبي أمية وأصحابه حين طالبوا النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات. }قل إن الله يضل من يشاء} عز وجل }يضل من يشاء} أي كما أضلكم بعد ما أنزل من الآيات وحرمكم الاستدلال بها يضلكم عند نزول غيرها. }ويهدي إليه من أناب} أي من رجع. والهاء في }إليه} للحق، أو للإسلام، أو لله عز وجل؛ على تقدير: ويهدي إلى دينه وطاعته من رجع إليه بقلبه. وقيل: هي للنبي صلى الله عليه وسلم. {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} قوله تعالى{الذين آمنوا} }الذين} في موضع نصب، لأنه مفعول؛ أي يهدي الله الذين أمنوا. وقيل بدل من قوله{من أناب} فهو في محل نصب أيضا. }وتطمئن قلوبهم بذكر الله} أي تسكن وتستأنس بتوحيد الله فتطمئن؛ قال: أي وهم تطمئن قلوبهم على الدوام بذكر الله بألسنتهم؛ قال قتادة: وقال مجاهد وقتادة وغيرهما: بالقرآن. وقال سفيان بن عيينة: بأمره. مقاتل: بوعده. ابن عباس: بالحلف باسمه، أو تطمئن بذكر فضله وإنعامه؛ كما تَْوجل بذكر عدله وانتقامه وقضائه. وقيل{يذكر الله} أي يذكرون الله ويتأملون آياته فيعرفون كمال قدرته عن بصيرة. قوله تعالى{ألا بذكر الله تطمئن القلوب} أي قلوب المؤمنين. قال ابن عباس: هذا في الحلف؛ فإذا حلف خصمه بالله سكن قلبه. وقيل{بذكر الله} أي بطاعة الله. وقيل: بثواب الله. وقيل: بوعد الله. وقال مجاهد: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. {الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب} قوله تعالى{الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم} ابتداء وخبره. وقيل: معناه لهم طوبى، فـ}طوبى} رفع بالابتداء، ويجوز أن يكون موضعه نصبا على تقدير: جعل لهم طوبى، ويعطف عليه }وحسن مآب} على الوجهين المذكورين، فترفع أو تنصب. قلت: والصحيح أنها شجرة؛ للحديث المرفوع الذي ذكرناه، وهو صحيح على ما ذكره السهيلي؛ ذكره أبو عمر في التمهيد، ومنه نقلناه؛ وذكره أيضا الثعلبي في تفسيره؛ {كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب} قوله تعالى{كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم} أي أرسلناك كما أرسلنا الأنبياء من قبلك؛ قاله الحسن. وقيل: شبه الإنعام على من أرسل إليه محمد عليه السلام بالإنعام على من أرسل إليه الأنبياء قبله. }لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك} يعني القرآن. }وهم يكفرون بالرحمن} {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد} قوله تعالى{ولو أن قرآنا سيرت به الجبال} هذا متصل بقوله يعني لهان علي؛ هذا معنى قول قتادة؛ قال: لو فعل هذا قرآن قبل قرآنكم لفعله قرآنكم. وقيل: الجواب متقدم، وفي الكلام تقديم وتأخير؛ أي وهم يكفرون بالرحمن لو أنزلنا القرآن وفعلنا بهم ما اقترحوا. الفراء: يجوز أن يكون الجواب لو فعل بهم هذا لكفروا بالرحمن. الزجاج{ولو أن قرآنا} إلى قوله{الموتى} لما آمنوا، والجواب المضمر هنا ما أظهر في قوله قوله تعالى{أفلم ييئس الذين آمنوا} قال الفراء قال الكلبي{ييأس} بمعنى يعلم، لغة النخع؛ وحكاه القشيري عن ابن عباس؛ أي أفلم يعلموا؛ وقاله الجوهري في الصحاح. وقيل: هو لغة هوازن؛ أي أفلم يعلم؛ عن ابن عباس ومجاهد والحسن. وقال أبو عبيدة: أفلم يعلموا ويتبينوا، وأنشد في ذلك أبو عبيدة لمالك بن عوف النصري: ييسرونني من الميسر، وقد تقدم في }البقرة} ويروى يأسرونني من الأسر. وقال رباح بن عدي: في كتاب الرد }أني أنا ابنه} وكذا ذكره الغزنوي: ألم يعلم؛ والمعنى على هذا: أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا من غير أن يشاهدوا الآيات. وقيل: هو من اليأس المعروف؛ أي أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الكفار، لعلمهم أن الله تعالى لو أراد هدايتهم لهداهم؛ لأن المؤمنين تمنوا نزول الآيات طمعا في إيمان الكفار. وقرأ علي وابن عباس{أفلم يتبين الذين آمنوا} من البيان. قال القشيري: وقيل لابن عباس المكتوب }أفلم ييئس} قال: أظن الكاتب كتبها وهو ناعس؛ أي زاد بعض الحروف حتى صار }ييئس}. قال أبو بكر الأنباري: روي عن عكرمة عن ابن أبي: نجيح أنه قرأ - }أفلم يتبين الذين آمنوا} وبها احتج من زعم أنه الصواب في التلاوة؛ وهو باطل عن بن عباس، لأن مجاهدا وسعيد بن جبير حكيا الحرف عن ابن عباس، على ما هو في المصحف بقراءة أبي عمرو وروايته عن مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس؛ ثم إن معناه: أفلم يتبين؛ فإن كان مراد الله تحت اللفظة التي خالفوا بها الإجماع فقراءتنا تقع عليها، وتأتي بتأويلها، وإن أراد الله المعنى الآخر الذي اليأس فيه ليس من طريق العلم فقد سقط مما أوردوا؛ وأما سقوطه يبطل القرآن، ولزوم أصحابه البهتان. }أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا} }أن} مخففة من القيلة، أي أنه لو يشاء الله }لهدى الناس جميعا} وهو يرد على القدرية وغيرهم. قوله تعالى{ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة} أي داهية تفجؤهم بكفرهم؛ وعتوهم؛ ويقال: قرعه أمر إذا أصابه، والجمع قوارع؛ والأصل في القرع الضرب؛ قال: أي لا يزال الكافرون تصيبهم داهية مهلكة من صاعقة كما أصاب أربد أو من قتل أو من أسر أو جدب، أو غير ذلك من العذاب والبلاء؛ كما نزل بالمستهزئين، وهم رؤساء المشركين. وقال عكرمة عن ابن عباس: القارعة النكبة. وقال ابن عباس أيضا وعكرمة: القارعة الطلائع والسرايا التي كان ينفذها رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم }أو تحل} أي القارعة. }قريبا من دارهم} قاله قتادة والحسن. وقال ابن عباس: أو تحل أنت قريبا من دارهم. وقيل: نزلت الآية بالمدينة؛ أي لا تزال تصيبهم القوارع فتنزل بساحتهم أو بالقرب منهم كقرى المدينة ومكة. }حتى يأتي وعد الله} في فتح مكة؛ قاله مجاهد وقتادة وقيل: نزلت بمكة؛ أي تصيبهم القوارع، وتخرج عنهم إلى المدينة يا محمد، فتحل قريبا من دارهم، أو تحل بهم محاصرا لهم؛ وهذه المحاصرة لأهل الطائف، ولقلاع خيبر، ويأتي وعد الله بالإذن لك في قتالهم وقهرهم. وقال الحسن: وعد الله يوم القيامة. {ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب} قوله تعالى{ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم} تقدم معنى الاستهزاء في }البقرة} ومعنى الإملاء في }آل عمران} أي سخر بهم، وأزري عليهم؛ فأمهلت الكافرين مدة ليؤمن من كان في علمي أنه يؤمن منهم؛ فلما حق القضاء أخذتهم بالعقوبة. }فكيف كان عقاب} أي فكيف رأيتم ما صنعت بهم، فكذلك أصنع بمشركي قومك. {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد} قوله تعالى{أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} ليس هذا القيام القيام الذي هو ضد القعود، بل هو بمعنى التولي لأمور الخلق؛ كما يقال: قام فلان بشغل كذا؛ فإنه قائم على كل نفس بما كسبت أي يقدرها على الكسب، ويخلقها ويرزقها ويحفظها ويجازيها على عملها؛ فالمعنى: أنه حافظ لا يغفل، والجواب محذوف؛ والمعنى: أفمن هو حافظ لا يغفل كمن يغفل. وقيل{أفمن هو قائم} أي عالم؛ قاله الأعمش. قال الشاعر: أي عالم؛ فالله عالم بكسب كل نفس. وقيل: المراد بذلك الملائكة الموكلون ببني آدم، عن الضحاك. }وجعلوا} حال؛ أي أوقد جعلوا، أو عطف على }استهزئ} أي استهزؤوا وجعلوا؛ أي سموا }لله شركاء} يعني أصناما جعلوها آلهة. }قل سموهم} أي قل لهم يا محمد{سموهم} أي بينوا أسماءهم، على جهة التهديد؛ أي إنما يسمون: اللات والعزى ومناة وهبل. }أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض} }أم} استفهام توبيخ، أي أتنبئونه؛ وهو على التحقيق عطف على استفهام متقدم في المعنى؛ لأن قوله{سموهم} معناه: ألهم أسماء الخالقين. }أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض}؟. وقيل: المعنى قل لهم أتنبئون الله بباطن لا يعلمه. }أم بظاهر من القول} يعلمه؟ فإن قالوا: بباطن لا يعلمه أحالوا، وإن قالوا: بظاهر يعلمه فقل لهم: سموهم؛ فإذا سموهم اللات والعزى فقل لهم: إن الله لا يعلم لنفسه شريكا. وقيل{أم تنبئونه} عطف على قوله{أفمن هو قائم} أي أفمن هو قائم، أم تنبئون الله بما لا يعلم؛ أي أنتم تدعون لله شريكا، والله لا يعلم لنفسه شريكا؛ أفتنبئونه بشريك له في الأرض وهو لا يعلمه! وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها وإن لم يكن له شريك في غير الأرض لأنهم ادعوا له شركاء في الأرض. ومعنى. }أم بظاهر من القول}: الذي أنزل الله على أنبيائه. وقال قتادة: معناه بباطل من القول؛ ومنه قول الشاعر: أي باطل. وقال الضحاك: بكذب من القول. ويحتمل خامسا - أن يكون الظاهر من القول حجة يظهرونها بقولهم؛ ويكون معنى الكلام: أتجبرونه بذلك مشاهدين، أم تقولون محتجين. }بل زين للذين كفروا مكرهم} أي دع هذا! بل زين للذين كفروا مكرهم قيل: استدراك. على هذا الوجه، أي ليس لله شريك، لكن زين للذين كفروا مكرهم. وقرأ ابن عباس ومجاهد - }بل زين للذين كفروا مكرهم} مسمى الفاعل، وعلى قراءة الجماعة فالذي زين للكافرين مكرهم الله تعالى، وقيل: الشيطان. ويجوز أن يسمى الكفر مكرا؛ لأن مكرهم بالرسول كان كفرا. }وصدوا عن السبيل} أي صدهم الله؛ وهي قراءة حمزة والكسائي. الباقون بالفتح؛ أي صدوا غيرهم؛ واختاره أبو حاتم، اعتبارا بقوله {لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق} قوله تعالى{لهم عذاب في الحياة الدنيا} أي للمشركين الصادين: بالقتل والسبي والإسار، وغير ذلك من الأسقام والمصائب. }ولعذاب الآخرة أشق} أي أشد؛ من قولك: شق علي كذا يشق. }وما لهم من الله من واق} أي مانع يمنعهم من عذابه ولا دافع. و}من} زائدة. {مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار} قوله تعالى{مثل الجنة التي وعد المتقون} اختلف النحاة في رفع }مثل} فقال سيبويه: ارتفع بالابتداء والخبر محذوف؛ والتقدير: وفيما يتلى عليكم مثل الجنة. وقال الخليل: ارتفع الابتداء وخبره }تجري من تحتها الأنهار} أي صفة الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار؛ كقولك: قولي يقوم زيد؛ فقولي مبتدأ، ويقوم زيد خبره؛ والمثل بمعنى الصفة موجود؛ قال الله تعالى {والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب} قوله تعالى{والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك} أي بعض من أوتي الكتاب يفرح بالقرآن، كابن سلام وسلمان، والذين جاؤوا من الحبشة؛ فاللفظ عام، والمراد الخصوص. وقال قتادة: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يفرحون بنور القرآن؛ وقاله مجاهد وابن زيد. وعن مجاهد أيضا أنهم مؤمنو أهل الكتاب. وقيل: هم جماعة أهل الكتاب من اليهود والنصارى يفرحون بنزول القرآن لتصديقه كتبهم. وقال أكثر العلماء: كان ذكر الرحمن في القرآن قليلا في أول ما أنزل، فلما أسلم عبدالله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة؛ فسألوا النبي عن ذلك؛ فأنزل الله تعالى {وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق} قوله تعالى{وكذلك أنزلناه حكما عربيا} أي وكما أنزلنا عليك القرآن فأنكره بعض الأحزاب كذلك أنزلناه حكما عريبا؛ وإذا وصفه بذلك لأنه أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عربي، فكذب الأحزاب بهذا الحكم أيضا. وقيل نظم الآية: وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغاتهم كذلك أنزلنا إليك القرآن حكما عربيا، أي بلسان العرب؛ ويريد بالحكم ما فيه من الأحكام. وقيل: أراد بالحكم العربي القرآن كله؛ لأنه يفصل بين الحق والباطل ويحكم. }ولئن اتبعت أهواءهم} أي أهواء المشركين في عبادة ما دون الله، وفي التوجيه إلى غير الكعبة. }بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق} أي ناصر ينصرك. }ولا واق} يمنعك من عذابه؛ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد الأمة. {ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب} قيل: إن اليهود عابوا على النبي صلى الله عليه وسلم الأزواج، وعيرته بذلك وقالوا: ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح، ولو كان نبيا لشغله أم النبوة عن النساء؛ فأنزل الله هذه والآية، وذكرهم أمر داود وسليمان فقال{ولقد أرسلنا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية} أي جعلناهم بشرا يقصون ما أحل الله من شهوات الدنيا، وإنما التخصيص في الوحي. هذه الآية تدل على الترغيب في النكاح والحض عليه، وتنهي عن التبتل، وهو ترك النكاح، وهذه سنة المرسلين كما نصت عليه هذه الآية، والسنة واردة بمعناها؛ قوله تعالى{وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله} عاد الكلام إلى ما اقترحوا من الآيات - ما تقدم ذكره في هذه السورة - فأنزل الله ذلك فيهم؛ وظاهر الكلام حظر ومعناه النفي؛ لأنه لا يحظر على أحد ما لا يقدر عليه. }لكل أجل كتاب} أي لكل أمر قضاه الله كتاب عند الله؛ قال الحسن. وقيل: فيه تقديم وتأخير، المعنى: لكل كتاب أجل؛ قال الفراء والضحاك؛ أي لكل أمر كتبه الله أجل مؤقت، ووقت معلوم؛ نظيره. {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} قوله تعالى{يمحو الله ما يشاء ويثبت} أي يمحو من ذلك الكتاب ما يشاء أن يوقعه بأهله ويأتي به. }ويثبت} ما يشاء؛ أي يؤخره إلى وقته؛ يقال: محوت الكتاب محوا، أي أذهبت أثره. }ويثبت} أي ويثبته؛ كقوله وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم }ويثبت} بالتخفيف، وشدد الباقون؛ وفي قراءة ابن عباس، واختيار أبي حاتم وأبي عبيد لكثرة من قرأ بها؛ لقول قلت: مثل هذا لا يدرك بالرأي والاجتهاد، وإنما يؤخذ: توقيفا، فإن صح فالقول به يجب ويوقف عنده، وإلا فتكون الآية عامة في جميع الأشياء، وهو الأظهر والله أعلم؛ وهذا يروي معناه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن مسعود وأبي وائل وكعب الأحبار وغيرهم، وهو قول الكلبي. وعن أبي عثمان النهدي أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة والذنب فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة؛ فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب. وقال ابن مسعود: اللهم إن كنت كتبتني في السعداء فأثبتني فيهم، وإن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء واكتبني في السعداء؛ فإنك: تمحو ما تشاء وتثبت؛ وعندك أم الكتاب. وكان أبو وائل يكثر أن يدعو: اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامح واكتبنا سعداء، وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. وقال كعب لعمر بن الخطاب: لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة. }يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب}. وقال مالك بن دينار في المرأة التي دعا لها: اللهم إن كان في بطنها جارية فأبدلها غلاما فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. وقال الكلبي: يمحو من الرزق ويزيد فيه، ويمحو من الأجل ويزيد فيه، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم سئل الكلبي عن هذه الآية فقال: يكتب القول كله، حتى إذا كان يوم الخميس طرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب، مثل قولك: أكلت وشربت ودخلت وخرجت ونحوه، وهو صادق، ويثبت ما فيه الثواب والعقاب. وقال قتادة وابن زيد وسعيد بن جبير: يمحو الله ما يشاء من الفرائض والنوافل فينسخه ويبدله، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، وجملة الناسخ والمنسوخ عنده في أم الكتاب؛ ونحوه ذكره النحاس والمهدوي عن ابن عباس؛ قال النحاس: وحدثنا بكر بن سهل، قال حدثنا أبو صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، }يمحو الله ما يشاء} يقول: يبدل الله من القرآن ما يشاء فينسخه، }ويثبت} ما يشاء فلا يبدله، }وعنده أم الكتاب} يقول: جملة ذلك عنده في أم الكتاب، الناسخ والمنسوخ. وقال سعيد بن جبير أيضا: يغفر ما يشاء - يعني - من ذنوب عباده، ويترك ما يشاء فلا يغفره. وقال عكرمة: يمحو ما يشاء - يعني بالتوبة - جميع الذنوب ويثبت بدل الذنوب حسنات قال تعالى {وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} قوله تعالى{وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم} }ما} زائدة، والتقدير: وإن نرينك بعض الذي نعدهم، أي من العذاب لقوله {أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب} قوله تعالى{أولم يروا} يعني، أهل مكة، }أنا نأتي الأرض} أي نقصدها. }ننقصها من أطرافها} اختلف فيه؛ فقال ابن عباس ومجاهد{ننقصها من أطرافها} موت علمائها وصلحائها قال القشيري: وعلى هذا فالأطراف الأشراف؛ وقد قال ابن الأعرابي: الطرف والطرف الرجل الكريم؛ ولكن هذا القول بعيد، لأن مقصود الآية: أنا أريناهم النقصان في أمورهم، ليعلموا أن تأخير العقاب عنهم ليس عن عجز؛ إلا أن يحمل قول ابن عباس على موت أحبار اليهود والنصارى. وقال مجاهد أيضا وقتادة والحسن: هو ما يغلب عليه المسلمون مما في أيدي المشركين؛ وروي ذلك عن ابن عباس، وعنه أيضا هو خراب الأرض حتى يكون العمران في ناحية منها؛ وعن مجاهد: نقصانها خرابها وموت أهلها. وذكر وكيع بن الجراح عن طلحة بن عمير عن عطاء بن أبي رباح في قول الله تعالى{أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها} قال: ذهاب فقهائها وخيار أهلها. قال أبو عمر بن عبدالبر: قول عطاء في تأويل الآية حسن جدا؛ تلقاه أهل العلم بالقبول. قلت: وحكاه المهدوي عن مجاهد وابن عمر، وهذا نص القول الأول نفسه، روى سفيان عن منصور عن مجاهد، }ننقصها من أطرفها} قال: موت الفقهاء والعلماء؛ ومعروف في اللغة أن الطرف الكريم من كل شيء؛ وهذا خلاف ما ارتضاه أبو نصر عبدالرحيم بن عبدالكريم من قول ابن عباس. وقال عكرمة والشعبي: هو النقصان وقبض الأنفس. قال أحدهما: ولو كانت الأرض تنقص لضاق عليك حشك. وقال الآخر: لضاق عليك حش تتبرز فيه. قيل: المراد به هلاك من هلك من الأمم قبل قريش وهلاك أرضهم بعدهم؛ والمعنى: أو لم تر قريش هلاك من قبلهم، وخراب أرضهم بعدهم؟! أفلا يخافون أن يحل بهم مثل ذلك؛ وروي ذلك أيضا عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج. وعن ابن عباس أيضا أنه بركات الأرض وثمارها وأهلها. وقيل: نقصها بجور ولاتها. قلت: وهذا صحيح معنى؛ فإن الجور والظلم يخرب البلاد، بقتل أهلها وانجلائهم عنها، وترفع من الأرض البركة، والله أعلم. قوله تعالى{والله يحكم لا معقب لحكمه} أي ليس يتعقب حكمه أحد بنقص ولا تغير. }وهو سريع الحساب} أي الانتقام من الكافرين، سريع الثواب للمؤمن. وقيل: لا يحتاج. في حسابه إلى روية قلب، ولا عقد بنان؛ حسب ما تقدم في }البقرة} بيانه. {وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار} قوله تعالى{وقد مكر الذين من قبلهم} أي من قبل مشركي مكة، مكروا بالرسل وكادوا لهم وكفروا بهم. }فلله المكر جميعا} أي هو مخلوق له مكر الماكرين، فلا يضر إلا بإذنه. وقيل: فلله خير المكر؛ أي يجازيهم به. }يعلم ما تكسب كل نفس} من خير وشر، فيجازي عليه. }وسيعلم الكفار} كذا قراءه نافع وابن كثير وأبي عمرو. الباقون{الكفار} على الجمع. وقيل: عني به أبو جهل. }لمن عقبى الدار} أي عاقبة دار الدنيا ثوابا وعقابا، أو لمن الثواب والعقاب في الدار الآخرة؛ وهذا تهديد ووعيد. {ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} قوله تعالى{ويقول الذين كفروا لست مرسلا} قال قتادة: هم مشركو العرب؛ أي لست بنبي ولا رسول، وإنما أنت متقول؛ أي لما لم يأتهم بما اقترحوا قالوا ذلك. }قل كفى بالله} أي قل لهم يا محمد{كفى بالله شهيدا بيني وبينكم} بصدقي وكذبكم. }ومن عنده علم الكتاب} وهذا إحجاج على مشركي العرب لأنهم كانوا يرجعون إلى أهل الكتاب - من آمن منهم - في التفاسير. وقيل: كانت شهادتهم قاطعة لقول الخصوم؛ وهم مؤمنو أهل الكتاب كعبدالله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري والنجاشي وأصحابه، قاله قتادة وسعيد بن جبير. قلت: وكيف يكون عبدالله بن سلام وهذه السورة مكية وابن سلام ما أسلم إلا بالمدينة؟! ذكره الثعلبي. وقال القشيري: وقال ابن جبير السورة مكية وابن سلام أسلم بالمدينة بعد هذه السورة؛ فلا يجوز أن تحمل هذه الآية على ابن سلام؛ فمن عنده علم الكتاب جبريل؛ وهو قول ابن عباس. وقال الحسن ومجاهد والضحاك: هو الله تعالى؛ وكانوا يقرؤون }ومن عنده علم الكتاب} وينكرون على من يقول: هو عبدالله بن سلام وسلمان؛ لأنهم يرون أن السورة مكية، وهؤلاء أسلموا بالمدينة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ }ومن عنده علم الكتاب} وإن كان في الرواية ضعف، وروى ذلك سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وروى محبوب عن إسماعيل بن محمد اليماني أنه قرأ كذلك - }ومِن عنده} بكسر الميم والعين والدال }علم الكتاب} بضم العين ورفع الكتاب. وقال عبدالله بن عطاء: قلت، لأبي جعفر بن على بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم زعموا أن الذي عنده علم الكتاب عبدالله بن سلام فقال: إنما ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وكذلك قال محمد ابن الحنفية. وقيل: جميع المؤمنين، والله أعلم. قال القاضي أبو بكر بن العربي: أما من قال إنه علي فعول على أحد وجهين: إما لأنه عنده أعلم المؤمنين وليس كذلك؛ بل أبو بكر وعمر وعثمان أعلم منه. قلت: فالكتاب على هذا هو القرآن. وأما من قال هو عبدالله بن سلام فعوَّل، على حديث الترمذي؛ وليس يمتنع أن ينزل في عبدالله بن سلام شيئا ويتناول جميع المؤمنين لفظا؛ ويعضده من النظام أن قوله تعالى{ويقول الذين كفروا} يعني قريشا؛ فالذين عندهم علم الكتاب هم المؤمنون من اليهود والنصارى، الذين هم إلى معرفة النبوة والكتاب أقرب من عبدة الأوثان. قال النحاس: وقول من قال هو عبدالله بن سلام وغيره يحتمل أيضا؛ لأن البراهين إذا صحت وعرفها من قرأ الكتب التي أنزلت قبل القرآن كان أمرا مؤكدا؛ والله أعلم بحقيقة ذلك.
|